الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنَّ الليبيين يستقبلون اليوم انطلاق ثورتهم الثاني، ذلك اليوم الذي حسموا فيه أمرهم واتخذوا قرارهم بإسقاط نظام القذافي بكل رموزه وأدواته، وكان قراراً صعباً بآثاره وتداعياته، ولكن لم يكن منها بد، ولم يعد من الممكن الوقوف عند حساب ما قد يصيب هذه البلاد من قتل وتدمير وتشريد على يد قوة عاتية، وآلة غاشمة، سهر القذافي على إعدادها وترتيبها زمناً طويلاً، وأنفق عليها من أموال الليبيين ما لا يعلمه إلا الله.
ليعدها ليوم اللطيمة مع هذا الشعب الذي كان على يقين من وقوعه وإن طال الزمن وكان قدر الله أن يكون في يوم الخميس 17/2/2011 م.
نفض الشباب ثوب الصغار، وألقوا قناعاً ظنه القذافي عنوان الهوان على مدى أربعة عقود وتزيد، فإذا بهم أسود تنطلق من عرينها، تهاجم كل شيء أمامها قد جن جنون الشجاعة فيها، تستقبل الرصاص بصدورها، لم يعد للموت رقم في حسابها، ولا معنى في نظرها، بل كانت تنشد غاية أكبر، تحركها إليها همة عالية قل أن يُرى في الناس مثيلها، ظلت تصارع قوة غاشمة قوامها مرتزقة جاءوا من كل مكان، وقليل من أبناء البلاد ممن باع كرامته ودينه ورجولته بلعاعة من حطام الدنيا، فكانت نتيجته أن خسر الآخرة والأولى، ولم يعد من رحلته إلا بخزي الدنيا والندامة يوم الحسرة الكبرى، وبعد صراع مرير وقتال عسير انتهى الأمر بسقوط القذافي بعد ثمانية أشهر وتزيد، وفي الأيام القادمة يستقبل الليبيون المناسبة الثانية، وهم يمسكون أنفاسهم، وينتظرون هذا اليوم بخليط من الفرح أن صاروا طلقاء من أغلال القذافي، أحراراً من قيوده وسياطه، لكن هذا الفرح لا يفارقه حزن على نفوس أبيه وأرواح زكية، ألقوا بها في ساحات الحرية، واحتسبوها عند الله في الشهداء، و استودعوها عنده في الأبرار الأصفياء، ولا يخطئهم هاجس ثالث خوفاً على مستقبل بلادهم وبناء دولتهم، لما يرون من تجاذبات تتقاطع فيها الاتجاهات وتتباين النظرات، خصوصاً عندما يجدون أمامهم على صفحات النت وعلى شاشات القنوات وأثير الإذاعات دعوات إلى تظاهرات، واعتصامات قد يعتريها شيء من الغموض، وقد تنطوي على دعوات تثير شيئاً من الريبة، قد يبدو ظاهرها مطالب مشروعة، لكن الخوف من باطنها، خصوصاً وأنَّ لأهل بنغازي تجارِب من هذا القبيل، إذ لا تزال جمعة إنقاذ بنغازي عالقة بالأذهان، فكم كانت تحمل من المطالب المشروعة والآمال الجميلة، لكنها لم تلبث أن أماطت لثامها عن وجه آخر لم يكن لعامتهم في حساب، وإن كان قليل من الناس عرف الأمر، وأدرك التدبير، لكن من يستمع له، بعد أن خرج الناس يحدوهم بريق الشعارات وسحر العبارات، وصورت لهم بعض الأماكن والمواقع على أنها مكمن الشر أو هي عينه، فإذا بهم يكتشفون أن ما قيل ليس هو الذي يجري، بعد أن أزهقت الأرواح وسالت الدماء، وسرق السلاح، وباتت بنغازي تترنح من ضربات صُوبت إليها لم تدر من أي يد أتتها، أمن صديق أحمق، أم من عدو متربص بها، لكن النتيجة أن الحزن كان خاتمتها، ويقيناً لم يحزن الذي دبرها؛ لأنَّه يجيد لعبة التهييج، كما يجيد لعبة النكوص على عقبيه، والبراءة مما قد جرى.
فليحذر أهل بنغازي من كرَّة لا أمان لها، وليضعوا ميثاقاً واضحاً يلتزم الجميع ببنوده، ويتفقون على تنفيذه يقرون به حق التعبير عن الرأي المشروع، والمطلب المشروع، لكن بسلم وسلام، ويقفون بموجبه في وجه من يحاول التخريب، أو قطع الطرق، أو الاستيلاء على المصالح، أو تعطيل الأعمال، أو إفساد الحياة السياسية، أو التأثير على السلم الاجتماعي فإنَّ مثل تلك الأعمال يردها الشرع، ويمجها العقل، ويرفضها المجتمع الواعي.
والمسلمون أولى الناس قياماً في وجه الفساد، وحثاً على الخير، إذا قد وصفهم الله بذلك حين قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
فلنستقبل هذا اليوم بما يستحق من دعوة إلى الصلاح والإصلاح، وتعاون على البر والتقوى، وحظ سلطات الدولة على القيام بواجبها، والتسريع ببناء الدولة ومؤسساتها، والعدالة في توزيع خيراتها.
وقى الله بلادنا كل مكروه، وجمعها على الرأي السديد والأمر الرشيد، وجعل أمرها إلى أهل الأمانة والكفاءة من أبنائها. بنغازي 11 فبراير 2013